بســم الله الـرحمــن الرحيــم
تفكرتُ _ وأحسبك تفكرت مثلي _ في جيلِ أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم ،
كيف كانوا ، ثم كيف صاروا .. ؟؟!
كيف لقنوا الدنيا دروساً كثيرة في كل مجال ..
وهم الذين كانوا قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ، مشغولين بالمعدة وما دون المعدة !!
كانوا قوماً لا يؤبه لهم ، ولا يكترث لهم ، ولا يعبأ بهم ، ولا وزن لهم في هذا العالم الذي يموج
من حولهم ، وهم أشبه بقطرة لا ترى بالعين ، في محيط متلاطم عنيف صاخب بالأمواج ،
يتلهون بالاقتتال فيما بينهم !! لكنهم لا يرفعون رأساً في وجه قوة من القوى الكبرى أيامها !!
ولقد لقنهم إبرهة _ولم يكن قوة من القوى المرهوبة الجانب كقوة الروم أو الفرس _
لقنهم درسا بلغ مستقر العظم ...!!
ولما خرج من بين أظهرهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وصرخ فيهم بصرخة التوحيد ،
ورباهم بمنهج الله ، وأدبهم بأدب السماء ، وعلق قلوبهم بربهم حتى شغفت هذه القلوب بحب الله
، وتشوقت أرواحهم للرحيل من هذه الدار ، بين الساعة وأختها ،
ليكون موت أحدهم هو يوم عرسه !! لأنه سيلقى الله رب العالمين ..!!
ومن هنا كانت بعثته صلى الله عليه وسلم ، وإيمانهم به ، وإقبالهم عليه ، وتأدبهم معه ،
وتفاعلهم مع منهجه ، وسيرهم على إثره خطوة خطوة ،
كانت هي نقطة التغيير الكبيرة في حياة هؤلاء ..
فإذا هم نقطة انطلاق نحو تصحيح أوضاع هذا العالم كله شرقه وغربه ..!!
وإذا هم رياح التغيير التي تسيّر الموج ، في الاتجاه الذي تسير فيه .!!
وإذا بصوتهم يعلو ، ولا يعلى عليه ..!!
إذا قالوا فقولهم الفصل ، ولا يُقضى الأمر وهم غياب !!
كما قال القائل في نموذجهم الرائع عمر الفاروق رضي الله عنه :
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً ** من باسه وملوك الروم تخشاهُ
عمر هذا لو أنك قرأت سيرته قبل انخراطه في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ،
لهالك أن ترى شخصية غير الشخصية التي تقرأ الآن عنها !!
ولكنها التربية النبوية الربانية القرآنية ، التي تحول الفحم الفتات ، إلى ألماس لا أروع منه !!
وعلى ضوء سيرة عمر يمكن أن تقيس بقية الصحابة رضوان الله عنهم ،
لتدرك كم هو عظيم هذا النبي الكريم محمد صلوات الله عليه وسلم ،
وكم هي رائعة هذه التربية الإيمانية التي أخرجت للدنيا هؤلاء النماذج الذين
لا تشبههم إلا الملائكة !
والسؤال الذي يكبر ككرة الثلج كلما تدحرجت :
ترى ما هو سر التغيير الهائل من النقيض إلى النقيض وعلى هذه الصورة التي أدهشت الدنيا ؟!
وفي المقابل ..
نرى اليوم أمتنا قد فقدت شخصيتها بين الأمم ، فلا كرامة لها ، ولا وزن فيها ،
ولا يحسب لها أحد حساباً ، تعيش عالة على الآخرين ، مقلدة فحسب ،
مذعورة حتى من نفسها !! تفر حتى من ظلها !! تحسب كل صيحة عليها !!
تعيش شعوبها اشبه بيوم الحشر : يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه..!!
إلا من رحم الله ..
ألا ما أشبه الليلة بالبارحة .. ليلة اليوم أخت بارحة جاهلية الأمس !!
امسى حال الأمة اليوم ، كما نرى ، حال يرثى له ، ويندى له الجبين الحر ..
وهي الأمة التي كان ينبغي أن تكون وريثة الأمجاد ، من أسلاف صدقوا الله ، فصنعوا المجد ،
ورسموا طريق النصر ، ومهدوا الدنيا لأقدامهم ، ليسيروا عليها نحو السماء !!
قطفوا النصر بسيوفهم ، ومكنوا لدينهم بأخلاقهم ، وأدبوا الدنيا بقرآنهم ،
ورفعوا الرأس عاليا لا يزاحمهم سوى النجوم في مداراتها ..!!
بفضل إقبالهم الصادق على الله ، وتلذذهم بذكر الله ، واستمتاعهم بتلاوة كلام الله ،
وانتشاء أرواحهم بالعمل من أجل الله ، وابتهاج نفوسهم وهم يحملون هم نشر دعوة الله
في كل مكان ، وما من بقعة مروا بها إلا وعطروها بسجداتهم .. وتكبيراتهم ، ومناجاتهم لله ،
ودموعهم أيضا ..!..
فالله ملء قلوبهم .. والله نصب عيونهم .. وذكر الله لا يغيب عن ألسنتهم ،
حيثما كانوا وأينما رحلوا أو نزلوا .. فنضر الله بهم وجه الدنيا ..!!
قومٌ كرامٌ أينما نزلوا ** يبقى المكانُ على آثارهم عبقا
والسؤال الذي يتجدد :
ترى هل من أمل أن يتغير الحال اليوم ، كما تغير الحال أمس .!؟
ما سر التغيير الذي حدث لذلك الجيل حتى غدا جيلاً فريداً في تاريخ البشرية كلها ..
فصنع الله على يديهم تلك المعجزات والخوارق والأعاجيب التي تدير الرأس..
ثم ما سر هذا التغيير الذي حدث بعد ذلك لهذه الأمة حتى أصبحت ذيلاً في الأمم ،
ومهزلة في العالم ، وأمسى كثير من أبنائها وبناتها مسخا مشوها في هذه الحياة !؟
أما أنا فأجزم أن الإجابة على كل هذه الأسئلة ، قد وردت في ثنايا الكلام الذي تقدم ،
فاقرأ ثانية وثالثة ، تجد الجواب يتجلى لعيني قلبك ..
ويبقى عليك بعد أن عرفت الجواب ، أن تسأل نفسك عن دورك أنت ..
قبل أن تلقي باللائمة على سواك !
ووطن نفسك أنك على ثغر ، فلا يؤتين الإسلام من قبلك ، وإلا فلا تلومنّ إلا نفسك !
وكفاك غفلة ، وكفاك تلهياً ، وصح في نفسك إن كانت نفسك تعنيك :
مضى عهد النوم يا ....... نفس !!
لقد كانت أهم ميزات جيل الصحابة رضوان الله عنهم :
أنهم أخرجوا حظوظ نفوسهم من نفوسهم !!
فحدث التغيير من داخل النفس أولاً .. ثم فاض من هذه النفوس على غيرها !!
(.. إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ...) الآية
فهل قرر كل واحد منا وفينا : أن يغير ما بنفسه ، ليكون سبباً في تغيير من حوله ..؟
ومعنى هذا الكلام :
أن الفساد الذي تراه من حولك ، قد تكون أنت بعينك السبب الرئيسي فيه من حيث لا تشعر ..!!
فتدارك أمرك قبل أن ينقضي أجلك فتصيح :
( ... رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ !!
كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ..
اللهم إني بلغت .. اللهم فاشهد .. اللهم فاشهد .. اللهم فاشهد
..