المعبد
لم يكن قرص الشمس الحارق اليوم رحيما بها... ولكنها كانت بإصرار خطواتها تعانده وتسلك مع أشعته طريقا متجهة إلى المعبد.
تسلل الحصى الصغير إلى داخل حذائها الممزق ليعيق حركتها ويبطئ سيرها....
ففضلت الإسراع حافية لتصل إلى مبتغاها كي تدرك من بالمعبد...
وهمت بخلعه ونظفته بكمها المتسخ ووضعته في جعبتها الصغيرة الملتفة حول
كتفها والتي أخرجت منها بضع قلادات بدائية الصنع لتحيط بها عنقها...
وأخيرا بدا المعبد يضوي تحت أشعة الشمس بلون أصفر , فأشرق كضي شمس أخرى
رحيمة, وكأن أبوابه ذراعان ينتظران ضمها ، فتتابعت خطواتها تسرع إليه ....
وما أن اقتربت من الأبواب حتى نظر إليها حراس المعبد باشمئزاز وكأنها حشرة تريد التسلل إلى وعاء القمح لتفسده...
صاح بها أحد الحراس وحاول منعها من الدخول ولكن لصغرها ولضآلة جسمها
المنهك من العمل استطاعت أن تراوغه وأن تتسلل من بين يديه غير آبهة
بصياحه..
دخلت المعبد أخيرا فأخذت ترمح فيه بفخر...
"لقد استطعت أن أدخل معبدنا رغم أنف كبير الحراس..."
وعند البهو أخذت تتبختر بكبرياء رافعة رأسها كأميرة...بل كملكة تزور
المعبد محاطة بحاشيتها وكأن الأنامل المنقوشة على الجدران تعزف ألحانا
خصيصا لوقع خطواتها....
نسيت ما أتت من أجله وكأن كل المشاكل قد انتهت...
للحظات نسيت كل شئ وتذكرت فقط أنها طفلة تلهو.
ولكن آلام أحشائها الخاوية ما لبثت أن ذكرتها بقسوة وأحست بكل جسدها يشكو الوهن ويطلب الراحة ...
ولكن لا راحة قبل الحصول على المال.
"ولكن هل سأستطيع أن أحصل عليه؟ "
تسلل القلق إلى قلبها الصغير, فاليوم نفذت النقود بالكامل و لم يعد لها
أملا غير المعبد لتحصل على مال تجلب به طعاما يشبع جوعها وجوع أخواتها...
أعمدة تتحدى السحب وتتحدى معه الزمن وتيجانها كأعناق شامخة تطلب من كل من يراها الإجلال ...
انتفضت مع وخذ في أحشائها فبدت كعصفور صغير يبحث بين العمالقة عن حبة قمح...
رسومات دقيقة مهيبة زينت الجدران , صورت وليمة فخمة للفرعون تضم لحوما
وفاكهة وكل ما لذ وطاب وقرابينا عظيمة قدمت وخيرات تعم البلاد...
التقطت أنفاسها ونظرت إلى تلك الجدران العالية المنقوشة لعل هذا الشموخ فيها يطمئنها أنها لن تنام اليوم بدون عشاء...
"يجب أن أبدأ الآن"
رفعت القلادات عن عنقها النحيف ومسحت حبات العرق عن جبينها المعقود
بالإصرار واستدارت لتبدأ ولكنها بهرت بذلك التمثال الشاهق أمامها..
وكأنه برج من العزة...
إنه تمثال الفرعون المهيب تملأه العظمة والشموخ...
يرفع عينيه عاليا إلى السحاب في زهو ورفعة, ينظر إلى السماء وكأنه يوما لم ير الأرض...
رفعت رأسها عاليا تنظر إليه فأحست بالتعب والإرهاق الشديدين وبدأت ملامحها
ترتسم بائسة قلقة متعبة على ذلك الوجه الطفولي الأسمر الذي ظل رغم كل شئ
يحمل جمال وبراءة الجنوب.
شعرت وكأن قرص الشمس الحارق الذي شاركها بقسوة طريقها لايزال يتربص بها
داخل المعبد وكأن ذلك القرص المرسوم على الجدران له أشعة حارقة كذلك الذي
يسكن السماء..
بدأت الرؤية تتشوه في عينيها والتعب يتمكن منها وهي تحاول أن تحول دون سقوطها...
أمسكت بأسفل التمثال ولكنه لم يساعدها, فسقطت عند قدميه وارتمت على أرض المعبد الصلبة وسقط معها كل ما تملك : قلاداتها وجعبتها...
لحظات من الراحة فازت بها وهي فاقدة للوعي مستلقاة عند قدمي التمثال...
ولكن سرعان ما أحست بأياد الحراس تقبض على ذراعيها وتجبرها على النهوض وهي في قمة الوهن...
"اتركوني اتركوني أنا فقط أريد بعض المال لأجلب الطعام"
ظهر ظل عظيم ملأ المكان ومهابة جعلت كل الحراس يتنحون جانبا ويسجدون...
ساد المكان للحظات سكون أُخترق بوقع خطوات كقرع الطبول...
ضمت ساقيها إليها في فزع وهي تخاف حتى أن تبكي..
"يا إلهي إنه الفرعون!
سأقتل لامحالة"
رن صوته واضحا عميقا بين الجدران...
"ماذا هنالك يا حراس ما تلك الضجة التي تملأ المعبد؟ ألا تعلمون أنه مكان آمن مقدس!؟"
"مولاي إن تلك الفتاة تسللت إلى المعبد لتسرق
"تسرق!!!! ولما تسرق؟
ألا يعم الخير بلادي؟
ألا يأكل كل مسكين؟
ويرزق كل فقير؟
ويعمل كل فتي؟
ويفتي كل فقيه؟"
رد الجميع "بلى سيدي... بلى"
هدأ قرص الشمس بعد أن مرت سحابة ضخمة ملأ ظلها الجدران..
أدار الفرعون عينيه بحثا عن الفتاة فكان عليه أن ينظر إلى الأرض حيث كانت تلتف حول نفسها صانعة كرة من الخوف..
أمر فاقترب منها حارسه بشعلة ليظهر وجهها بوضوح...
وكأن الدهر قد مر عليها وبضع خطوات تأخذ الفرعون نحوها...
كان قوي البنية كما تخيلته...
ثياب وحلي لم تر لهم مثيلا من قبل , تاج فخم يحمله فوق رأسه يزيده مهابة
وعظمة , لحية مهندمة سوداء كاحلة وقسمات وجه صارمة ولكنها أقل حدة من
التمثال...
اقترب الفرعون منها أكثر فوجد علامات الفقر تلوح له وجلبابها الممزق يحكي عن بؤس وشقاء...
"أين أباك يا فتاة؟"
أجابت وقلبها يكاد ينخلع من الخوف...
"أبي غرق العام الماضي أثناء رحلته إلى الشمال بحثا عن الرزق و...و...وأمي مريضة"
طلب الفرعون وزيره في غضب وساد القلق المكان...
"كيف يحدث هذا في بلادي؟"
ثم أشار للحراس فأسرعوا لها بالطعام والشراب والفاكهة من خيرات المعبد ثم أمر فأعطت قطع نقدية ذهبية نثرت أمامها...
"لا أصدق! لقد نجوت!
ليس هذا فقط بل سأنعم بكل هذا الطعام اللذيذ دون عناء وسأبتاع لأمي
ولأخوتي طعاما كثيرا دون الحاجة إلى مشقة بيع تلك القلادات التي أصنعها
بصعوبة."
ولكن لايزال الحراس يقبضون على ذراعي بنفس القوة"
"استيقظي أيتها الفتاة... استيقظي!
هؤلاء الشحاذون يشوهون سمعتنا دائما لدى السياح الأجانب ويمنعون الخير عن البلاد..
كيف تسمحون لها بأن تدخل المعبد عبر بوابة التذاكر؟"
أنا آسف سيدي تسللت من بين يدي""
نهضت الفتاة مفزوعة تتفقد ما حولها باحثة عن طعامها ونقودها, فما وجدت سوى
حصا تتقاذفه أرجل السياح ... أعمدة وجدرانا صامتة ووجوه حراس عابسة...
دفعها الحارس لتمشي فلم تقاومه تلك المرة واستسلمت لترك المعبد ....
" جعبتي ...قلاداتي... "
أخذت تلملم أغراضها في عجلة عند قدمي التمثال ويد الحارس تسحب يدها
الصغيرة ودموعها تتناثر على خديها , فهي لم تبع أيا من القلادات للسياح
الذين كانوا ينتشرون في أرجاء المكان ينظرون إليها كما ينظرون إلى
التماثيل وكأنها تحفة نادرة...
رحلت وهي تحمل في عينيها صورا من الجدران...
وعلامات الحزن ترتسم على ذلك الوجه الطفولي الأسمر الذي ظل رغم كل شئ يحمل جمال وبراءة الجنوب...
وقبل أن تترك المعبد مرغمة رمقت بعينيها الدامعتين ذلك التمثال العظيم....
كان يرفع عينيه عاليا إلى السحاب في زهو ورفعة, ينظر إلى السماء وكأنه يوما لم ير الأرض...
[size=16]
لم يكن قرص الشمس الحارق اليوم رحيما بها... ولكنها كانت بإصرار خطواتها تعانده وتسلك مع أشعته طريقا متجهة إلى المعبد.
تسلل الحصى الصغير إلى داخل حذائها الممزق ليعيق حركتها ويبطئ سيرها....
ففضلت الإسراع حافية لتصل إلى مبتغاها كي تدرك من بالمعبد...
وهمت بخلعه ونظفته بكمها المتسخ ووضعته في جعبتها الصغيرة الملتفة حول
كتفها والتي أخرجت منها بضع قلادات بدائية الصنع لتحيط بها عنقها...
وأخيرا بدا المعبد يضوي تحت أشعة الشمس بلون أصفر , فأشرق كضي شمس أخرى
رحيمة, وكأن أبوابه ذراعان ينتظران ضمها ، فتتابعت خطواتها تسرع إليه ....
وما أن اقتربت من الأبواب حتى نظر إليها حراس المعبد باشمئزاز وكأنها حشرة تريد التسلل إلى وعاء القمح لتفسده...
صاح بها أحد الحراس وحاول منعها من الدخول ولكن لصغرها ولضآلة جسمها
المنهك من العمل استطاعت أن تراوغه وأن تتسلل من بين يديه غير آبهة
بصياحه..
دخلت المعبد أخيرا فأخذت ترمح فيه بفخر...
"لقد استطعت أن أدخل معبدنا رغم أنف كبير الحراس..."
وعند البهو أخذت تتبختر بكبرياء رافعة رأسها كأميرة...بل كملكة تزور
المعبد محاطة بحاشيتها وكأن الأنامل المنقوشة على الجدران تعزف ألحانا
خصيصا لوقع خطواتها....
نسيت ما أتت من أجله وكأن كل المشاكل قد انتهت...
للحظات نسيت كل شئ وتذكرت فقط أنها طفلة تلهو.
ولكن آلام أحشائها الخاوية ما لبثت أن ذكرتها بقسوة وأحست بكل جسدها يشكو الوهن ويطلب الراحة ...
ولكن لا راحة قبل الحصول على المال.
"ولكن هل سأستطيع أن أحصل عليه؟ "
تسلل القلق إلى قلبها الصغير, فاليوم نفذت النقود بالكامل و لم يعد لها
أملا غير المعبد لتحصل على مال تجلب به طعاما يشبع جوعها وجوع أخواتها...
أعمدة تتحدى السحب وتتحدى معه الزمن وتيجانها كأعناق شامخة تطلب من كل من يراها الإجلال ...
انتفضت مع وخذ في أحشائها فبدت كعصفور صغير يبحث بين العمالقة عن حبة قمح...
رسومات دقيقة مهيبة زينت الجدران , صورت وليمة فخمة للفرعون تضم لحوما
وفاكهة وكل ما لذ وطاب وقرابينا عظيمة قدمت وخيرات تعم البلاد...
التقطت أنفاسها ونظرت إلى تلك الجدران العالية المنقوشة لعل هذا الشموخ فيها يطمئنها أنها لن تنام اليوم بدون عشاء...
"يجب أن أبدأ الآن"
رفعت القلادات عن عنقها النحيف ومسحت حبات العرق عن جبينها المعقود
بالإصرار واستدارت لتبدأ ولكنها بهرت بذلك التمثال الشاهق أمامها..
وكأنه برج من العزة...
إنه تمثال الفرعون المهيب تملأه العظمة والشموخ...
يرفع عينيه عاليا إلى السحاب في زهو ورفعة, ينظر إلى السماء وكأنه يوما لم ير الأرض...
رفعت رأسها عاليا تنظر إليه فأحست بالتعب والإرهاق الشديدين وبدأت ملامحها
ترتسم بائسة قلقة متعبة على ذلك الوجه الطفولي الأسمر الذي ظل رغم كل شئ
يحمل جمال وبراءة الجنوب.
شعرت وكأن قرص الشمس الحارق الذي شاركها بقسوة طريقها لايزال يتربص بها
داخل المعبد وكأن ذلك القرص المرسوم على الجدران له أشعة حارقة كذلك الذي
يسكن السماء..
بدأت الرؤية تتشوه في عينيها والتعب يتمكن منها وهي تحاول أن تحول دون سقوطها...
أمسكت بأسفل التمثال ولكنه لم يساعدها, فسقطت عند قدميه وارتمت على أرض المعبد الصلبة وسقط معها كل ما تملك : قلاداتها وجعبتها...
لحظات من الراحة فازت بها وهي فاقدة للوعي مستلقاة عند قدمي التمثال...
ولكن سرعان ما أحست بأياد الحراس تقبض على ذراعيها وتجبرها على النهوض وهي في قمة الوهن...
"اتركوني اتركوني أنا فقط أريد بعض المال لأجلب الطعام"
ظهر ظل عظيم ملأ المكان ومهابة جعلت كل الحراس يتنحون جانبا ويسجدون...
ساد المكان للحظات سكون أُخترق بوقع خطوات كقرع الطبول...
ضمت ساقيها إليها في فزع وهي تخاف حتى أن تبكي..
"يا إلهي إنه الفرعون!
سأقتل لامحالة"
رن صوته واضحا عميقا بين الجدران...
"ماذا هنالك يا حراس ما تلك الضجة التي تملأ المعبد؟ ألا تعلمون أنه مكان آمن مقدس!؟"
"مولاي إن تلك الفتاة تسللت إلى المعبد لتسرق
"تسرق!!!! ولما تسرق؟
ألا يعم الخير بلادي؟
ألا يأكل كل مسكين؟
ويرزق كل فقير؟
ويعمل كل فتي؟
ويفتي كل فقيه؟"
رد الجميع "بلى سيدي... بلى"
هدأ قرص الشمس بعد أن مرت سحابة ضخمة ملأ ظلها الجدران..
أدار الفرعون عينيه بحثا عن الفتاة فكان عليه أن ينظر إلى الأرض حيث كانت تلتف حول نفسها صانعة كرة من الخوف..
أمر فاقترب منها حارسه بشعلة ليظهر وجهها بوضوح...
وكأن الدهر قد مر عليها وبضع خطوات تأخذ الفرعون نحوها...
كان قوي البنية كما تخيلته...
ثياب وحلي لم تر لهم مثيلا من قبل , تاج فخم يحمله فوق رأسه يزيده مهابة
وعظمة , لحية مهندمة سوداء كاحلة وقسمات وجه صارمة ولكنها أقل حدة من
التمثال...
اقترب الفرعون منها أكثر فوجد علامات الفقر تلوح له وجلبابها الممزق يحكي عن بؤس وشقاء...
"أين أباك يا فتاة؟"
أجابت وقلبها يكاد ينخلع من الخوف...
"أبي غرق العام الماضي أثناء رحلته إلى الشمال بحثا عن الرزق و...و...وأمي مريضة"
طلب الفرعون وزيره في غضب وساد القلق المكان...
"كيف يحدث هذا في بلادي؟"
ثم أشار للحراس فأسرعوا لها بالطعام والشراب والفاكهة من خيرات المعبد ثم أمر فأعطت قطع نقدية ذهبية نثرت أمامها...
"لا أصدق! لقد نجوت!
ليس هذا فقط بل سأنعم بكل هذا الطعام اللذيذ دون عناء وسأبتاع لأمي
ولأخوتي طعاما كثيرا دون الحاجة إلى مشقة بيع تلك القلادات التي أصنعها
بصعوبة."
ولكن لايزال الحراس يقبضون على ذراعي بنفس القوة"
"استيقظي أيتها الفتاة... استيقظي!
هؤلاء الشحاذون يشوهون سمعتنا دائما لدى السياح الأجانب ويمنعون الخير عن البلاد..
كيف تسمحون لها بأن تدخل المعبد عبر بوابة التذاكر؟"
أنا آسف سيدي تسللت من بين يدي""
نهضت الفتاة مفزوعة تتفقد ما حولها باحثة عن طعامها ونقودها, فما وجدت سوى
حصا تتقاذفه أرجل السياح ... أعمدة وجدرانا صامتة ووجوه حراس عابسة...
دفعها الحارس لتمشي فلم تقاومه تلك المرة واستسلمت لترك المعبد ....
" جعبتي ...قلاداتي... "
أخذت تلملم أغراضها في عجلة عند قدمي التمثال ويد الحارس تسحب يدها
الصغيرة ودموعها تتناثر على خديها , فهي لم تبع أيا من القلادات للسياح
الذين كانوا ينتشرون في أرجاء المكان ينظرون إليها كما ينظرون إلى
التماثيل وكأنها تحفة نادرة...
رحلت وهي تحمل في عينيها صورا من الجدران...
وعلامات الحزن ترتسم على ذلك الوجه الطفولي الأسمر الذي ظل رغم كل شئ يحمل جمال وبراءة الجنوب...
وقبل أن تترك المعبد مرغمة رمقت بعينيها الدامعتين ذلك التمثال العظيم....
كان يرفع عينيه عاليا إلى السحاب في زهو ورفعة, ينظر إلى السماء وكأنه يوما لم ير الأرض...
[size=16]
تمت