من طرف Rero الأربعاء فبراير 13, 2008 10:41 am
وفي مسجد
الإمام الحسين بدأت أنطلق إلى ما كنت أحلم به تعرفت على كبار المسئولين
بالدولة وتقربت منهم وشجعوني على القراءة أمام الجماهير, وكانوا سبباً في
إزالة الرهبة من نفسي, وكانوا سبباً قوياً في كثير من الدعوات التي وجهت
إليّ لإحياء مآتم كثيرة بالقاهرة زاملت فيها مشاهير القراء بالإذاعة أمثال
الشيخ مصطفى, والشيخ عبد الباسط والشيخ الحصري وغيرهم من مشاهير القراء .
وكان من بين
رواد المسجد الحسيني الأستاذ محمد أمين حماد مدير الإذاعة آنذاك فقال له
الحاضرون يا أستاذ أعط راغب كارت حتى يتمكن من دخول الإذاعة لتقديم طلب
الالتحاق كقارئ بالإذاعة وفعلاً أعطاني الكارت وقال تقابلني غداً بمكتبي
بمبنى الإذاعة بالشريفين . ذهبت إلى مسجد الإمام الحسين فوجدت الشيخ حلمي
عرفة وبصحبته اللواء صلاح الألفي واللواء محمد الشمّاع ووافق الثلاثة على
الذهاب معي لمقابلة السيد مدير الإذاعة الذي أحسن استقبالي بصحبتهم وكتبت
الطلب وبه عنواني بالبلد, وجاءني خطاب به موعد الاختبار كقارئ بالإذاعة
وذلك قبل خروجي من الخدمة بشهر . وحسب الموعد ذهبت إلى الإذاعة ليتم
اختباري أمام اللجنة, ووجدت هناك حوالي 160 قارئاً فقالوا لي: أنت ضمن
الحرس ؟ لأنني كنت مرتديا الزى العسكري – فقلت أنا زميل لكم وعندي امتحان
مثلكم فتعجبوا وقال بعضهم ندعوا الله لك بالتوفيق. ونادي الموظف عليّ في
دوري المقرر فدخلت أمام لجنة القرآن لأن اللجنة كانت قسمين قسم للقرآن,
والثاني للصوت فوجدتني أمام لجنة مكونة من كبار العلماء كالدكتور محمد أبو
زهرة, والشيخ السنوسي, والدكتور عبد الله ماضي. ولجنة الصوت مكونة من
الأستاذ محمود حسن إسماعيل الشاعر المعروف والأستاذ حسني الحديدي الإذاعي
القدير والأستاذ محمد حسن الشجاعي, والدكتور أبو زهرة فقالوا لي: اقرأ من
قوله تعال : { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ
مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون (160) قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا
مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) }
الأنعام . وكنت موفقاً بفضل الله تعالى وأثنى عليّ أعضاء اللجنة ونصحوني
بالمحافظة على صوتي, وكانت الساعة حوالي الواحدة صباحاً من السابعة مساء
إلى الواحدة صباحاً ما بين انتظار دوري واختباري .. وبعد عشرين يوماً
جاءني خطاب من الإذاعة بما حدث أثناء اختباري كقارئ بالإذاعة فأخذت الخطاب
وذهبت إلى معهد القراءات بالأزهر وسألتهم عن مضمون الجواب وما قرره أعضاء
اللجنة , فقال لي شيخ المعهد يا راغب أنت نلت إعجاب كل أعضاء اللجنة
والقرار يوضح ذلك ودرجاتك مرتفعة في الحفظ والتجويد والأحكام وأنت ستدخل
تصفية لإجراء الصوت فقط . توجهت إلى دار الإذاعة بالشريفين واطلعت على
النتيجة فوجت أنني ضمن السبعة الناجحين من مائة وستين قارئاً ولنا تصفية
للاختبار في الصوت ففرحت فرحة لا مثيل لها, وكدت أطير من شدة الفرح
والسعادة . واكتسبت ثقة بنفسي لا حدود لها لأنني قطعت ثلاثة أرباع المسافة
في طريق الوصول إلى الإذاعة واقتربت جداً من الدخول بين كوكبة من مشاهير
القراء بالإذاعة وكانوا كلهم أفذاذاَ ومشاهير وأصحاب شهرة عالية , أمثال
الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمد صديق المنشاوي والشيخ الفشني, والشيخ عبد
العظيم زاهر, والشيخ البهتيمي, والشيخ عبد الباسط, والشيخ البنا وغيرهم من
فحول القراء أصحاب المدارس المختلفة .. وبعد أقل من شهر دخلت اختبار
التصفية, وكان التوفيق حليفي بفضل الله تعالى, فأديت أداءً رائعاً, ورأيت
علامات البشرى في وجوه أعضاء اللجنة فازددت طمأنينة وثباتا وثقة بنفسي,
وزالت الرهبة ونسيت أنني أمام لجنة امتحان, وقدمت كل ما لدي من جهد
وإمكانات مع الحرص الشديد على الأحكام , ونسى أعضاء اللجنة أنهم يختبرون
قارئاً فتركوني أقرأ مدة طويلة فشعرت أنهم يسمعون القرآن, استحسانا
وإعجاباً بصوتي وأدائي, وبعد انتهائي من التلاوة جلست معهم بضع دقائق, ولم
يخفوا إعجابهم بصوتي وطريق الأداء فنصحوني بالمحافظة على صوتي وخاصة من
التدخين وتناول المشروبات المثلجة فازداد أملي في النجاح .
بعد ذلك
انشغلت بإنهاء إجراءات تسليم مهماتي وإخلاء طرفي من بلوكات الأمن بانتهاء
مدة تجنيدي التي لم يتبق عنها إلا عشرين يوماً قمت بعدها بالحصول على
شهادة تأدية الخدمة الوطنية وأقيم لنا حفل بسيط في الوحدة أنا وزملائي
الذي دخلوا معي التجنيد . لم أنس النتيجة النهائية لاعتمادي قارئاً
بالإذاعة , ولم أتوقع ظهور النتيجة قبل شهرين أو ثلاثة على الأقل ولكنها
ظهرت أثناء إنهائي إجراءات الخروج من الخدمة ا لوطنية بالأمن المركزي ,
ولم أعلم إلا من هذا الموقف ( شاويش يدخل الإذاعة ) .
حصلت على
شهادة إنهاء الخدمة وذهبت إلى بلدتي ( برما ) فوجدت ما لم أتوقع قابلني
أهل القرية مقابلة غريبة عليّ .. الفرحة والسعادة تعمرهم ويقولون لي ألف
مبروك يا راغب واحتضنوني وكادوا يحملونني على أعناقهم كل هذا وأنا غير
مصدق لما يحدث فقلت لهم هو أنتم عمركم ما شفتم عسكري خرج من الخدمة إلا
أنا إيه الحكاية ؟ فقالوا هو أنت ما سمعتش الخبر السعيد ؟ فقلت لهم : وما
هو الخبر السعيد ؟ قالوا: صورتك واسمك في كل الجرايد بالخط العريض ) . (
شاويش ومقرئ ) وسبحان الله الذي ثبت فؤادي وألهمني الصبر وتحمل هذا الخبر
السعيد جداً جداًَ والذي جاء في وقته, وكأنه كان مكافأة إنهاء خدمتي
الوطنية عام 1962م , إنه كان خبراً قوياً وشديداً يحتاج إلى عقل وصبر جميل
لعدم الإفراط في الفرحة حتى لا تأتي بنتيجة عكسية, ولما لا تكون فرحة كبرى
وأنا في هذه السن التي لا تتعدى اثنين وعشرين عاماً وسأكون أصغر قارئ
بالإذاعة في عصرها الذهبي وذلك عام 1962م .
سافر الشيخ
راغب إلى معظم دول العالم في شهر رمضان لأكثر من ثلاثين عاماً متتالية
قارئاً لكتاب الله عز وجل لم يرجو إلا ابتغاء مرضاة الله إيمانا منه بأنها
رسالة جليلة يجب تأديتها بما يليق وجلالها .. له في منطقة الخليج العربي
جمهور يقدر بالآلاف مما جعلهم يوجهون إليه الدعوات لإحياء المناسبات
الرسمية وخاصة في الكويت والإمارات والسعودية .. في السنوات الأخيرة يفضل
البقاء بمصر في شهر رمضان المبارك ليسعد الملايين من خلال تلاوته القرآن
الفجر والجمعة والمناسبات المختلفة ليسد فراغاً يتسبب عنه سفر زملائه من
مشاهير القراء إلى دول العالم لإحياء ليالي شهر رمضان , للشيخ راغب مصحف
مرتل يذاع بإذاعات دول الخليج العربي صباح مساء .. وما زال هذا القارئ
الفريد صاحب الصوت العذب الندي الجميل يتلو قرآن الفجر مرة كل شهر بأشهر
مساجد مصر على الهواء مباشرة بالإضافة إلى تلاوته لقرآن الجمعة والمناسبات
الدينية عبر موجات الإذاعة وشاشات التليفزيون ليستمتع الملايين من عشاق
صوته والمتيمين لفذة أدائه وحسن تلاوته ووقار صوته وجماله من المواقف التي
لا تنسى عبر رحلته مع القرآن خلال نصف قرن من الزمان .. جاب أقطار الدنيا
كلها تالياً كتاب الله عز وجل .
يقول الشيخ
راغب ... وأثناء تجنيدي ببلوكات الأمن بالدراسة عام 1961م حدث أن توفي أحد
اللواءات بوزارة الداخلية وأقيم له ( مأتم ) كبير بميدان العباسية ..
فوجئت بالسيد القائد يقول لي: يا راغب فيه مأتم بالعباسية والعزاء مساءّ
والمتوفى أحد قيادات وزارة الداخلية . وأنا رشحتك لتقرأ مع الشيخ الإذاعي
الذي دعي لإحياء المأتم .. فلم يزد ردّي على قولي للسيد القائد : تمام يا
فندم , وقتها كنت أرتدي الزى العسكري ولكنني كنت أحتفظ بزي القراء الخاص
بي بحقيبتي داخل المعسكر, ونظراً لقرب المعسكر ( بالدراسة ) من المكان
المقام به العزاء ـ صليت المغرب وتوجهت إلى السرادق المقام بالعباسية .
ولما اقتربت من الميدان وجدت سرادقاً لم أر مثله في ذلك الوقت من حيث
المساحة وعدد المعزين من الرتب والمناصب الكبرى .. والصوت المنبعث من
مكبرات الصوت المنتشرة في كل مكان حول السرادق ـ كان صوت الشيخ عبد الباسط
عبد الصمد .. فقلت لنفسي ما الذي ستفعله يا راغب مع هذا العملاق ؟ لأن
المرحوم الشيخ عبد الباسط كان صاحب إمكانات متعددة .. من الممكن أن تنزل
الرعب على أي قارئ تأتي به الأقدار إلى سهرة هو قارئها .. ولأنه كان الاسم
الذي زلزل الأرض تحت أقدام قراء عصره, وهذه كلمة حق .. دعوت الله أن
يثبتني واستعنت به على مواجهة هذا الموقف .. جلست أمام الشيخ عبد الباسط ,
فلما رآني علم بذكائه وخبرته أنني قادم لمشاركته القراءة. فأنذرني بعدة
جوابات متتالية تجلت فيها أروع فنون الأداء القرآني مستخدماً كل ما أنعم
الله عليه من إمكانات صوتية وتجويدية وصحية, وبعد انتهائه من القراءة سلمت
عليه ورحب بي وقال لي : موفق بإذن الله .. صعدت أريكة القراءة وقرأت
قرآناً وكأنه من السماء وكأن التجلي الرباني والتوفيق الإلهي اجتمعا ونزلا
عليّ فأديت بقوة ابن العشرين فانقلبت الموازين بتعاطف الموجودين معي مما
ساعدني على مواصلة التلاوة بناء على رغبة الحاضرين ) , وبعد ما قلت صدق
الله العظيم سمعت من عبارات الدعاء والثناء والإعجاب ما أبكاني من شدة
الفرحة الغامرة .. وبعد انتهاء المأتم فوجئت بأحد القادة يعطيني ( ظرف
جواب ) فرفضت أخذه .. فقال لي أترفض ما يقدمه لك أحد قادتك ؟ فقلت سيادتك
أنا جئت من المعسكر تنفيذا لتعليمات السيد القائد .. فقال: والآن يجب أن
تنفذ التعليمات كذلك . فأخذت ( ظرف الجواب ) ولما فتحته وجدت به ما يعدل
ثلاثين سهرة بالنسبة لي ( وجدت به خمسة عشر جنيهاً ) بينما كنت أحصل على
خمسين قرشاً في المأتم .. وهذا كان قبل عيد الأضحى بأيام فقلت الحمد لله
ثم الحمد لله ثم الحمد لله .. وموقف آخر في حياته لن ينساه أبداً وأرجو أن
يقرأه قراؤنا لعلهم يعملون به .
يقول الشيخ
راغب : ( .. وسنة 1965م وبعد التحاقي بالإذاعة بثلاث سنوات جاءني خطاب
بموعد التسجيل بأستوديو الإذاعة بالشريفين وبالخطاب تحديد الموعد من 12
ظهراً إلى الواحدة. في نفس اليوم ارتبطت بمأتم بالمنوفية .. فذهبت إلى
الإذاعة قبل موعدي بساعة كاملة حتى أتمكن من الانتهاء من التسجيل بسرعة
نظراً لارتباطي بمأتم ففوجئت بالمرحوم الشيخ محمد صديق المنشاوي يدخل
الأستوديو قبل أن أجلس للتسجيل لأنه كان حاجزاً في نفس الوقت قبلي بساعة
فقال لي حجزك الساعة كم يا شيخ راغب ؟ قلت له بعد ساعة, ولكن ظروفي كذا
وكذا. فقال للمسئول عن التسجيل : نظراً لظروف الشيخ راغب أرجو تأجيل حجزي
إلى غد أو بعد غد ودعا لي بالتوفيق في التسجيل وفي السهرة . وانصرف الرجل
مبتسماً بعد ما ترك لي وقته كاملاً . ومرت الأيام ورحل فضيلته يحمل معه ما
بقي من فضيلة اتّسم بها جيل كامل من العمالقة الأبرار بالقرآن وأهله .